طريق إيران وطموحاتها في سوريا
Source: صحيفة الشرق الأوسط
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
لم يعد خافياً على أحد حضور إيران القوي في سوريا، وهو حضور على مستويين؛ أولهما مستوى ظاهري، يتخذ طابعاً علنياً واضحاً وصريحاً، والآخر مستوى عميق يحتاج إلى تدقيق ومتابعة في الواقع السوري لرؤية اتجاهاته ومستوياته، وتفاعلاته داخل المجتمع والدولة، ويجعل اجتماع المستويين في حضور إيران داخل سوريا منها أكبر دولة ذات وزن وتأثير في بلد فتحه النظام الحاكم بمساهمة أطراف أخرى أمام كل التدخلات الإقليمية والدولية، وكانت إيران المستفيد الأول.
مظاهر حضور إيران في سوريا كثيرة ومتعددة، لكنّ بعضها أكثر أهمية من البعض الآخر، كما في مثال عمليات التشييع الفارسي التي تتابعها إيران في أنحاء مختلف من البلاد، لا سيما تلك التي تحظى بأهمية، وبينها محيط دمشق، ليس من أجل تعزيز سيطرتها على العاصمة فقط، بل أيضاً لتعزيز سيطرتها على ما تزعم من مقامات ومزارات تخص الشيعة من دون بقية المسلمين أو أكثر منهم، وقد حفظت دمشق تلك المزارات طوال نحو 1500 عام، كما تتابع إيران عمليات التشييع على حدود سوريا الشرقية في دير الزور بمدنها وأريافها، وهي المعبر الرئيسي بين سوريا والعراق ومحطة ذات أهمية بالغة في مسار إيران البري إلى الداخل والساحل السوري ونحو لبنان.
ومن مظاهر حضور إيران العلني، ظاهرة الاستعراضات الاحتفالية للتشيع الفارسي، المترافق مع تكثيف الحركة إلى المزارات الدينية، وبخاصة في دمشق ومحيطها الذي يشمل السيدة زينب وداريا، وكلها تتجاوز فكرة أنها طقوس دينية، لتكون حمالة رسائل إلى السوريين وسكان عاصمتهم مفادها أن شيعة إيران صاروا العنصر الأقوى والصوت الأعلى في المدينة، التي لطالما عدّوها مدينة، بل العاصمة التاريخية لخصومهم الأمويين، وقد تكررت في الزيارات والاستعراضات الاحتفالية في دمشق الاعتداءات على مبانٍ وأضرحة لها دلالات في الاختلاف الشيعي - السني.
ولعله لا يحتاج إلى تأكيد قول إن ثمة مظاهر علنية كثيرة تستحق الإشارة إليها، لكنّ الحيز ضيق ويدفعنا إلى التوقف عند الحضور الإيراني العميق في الواقع السوري، ولعل الأهم فيه نقطتان لهما أهمية خاصة؛ الأولى هو التسلل الإيراني في جسد المجتمع والدولة، وهو تسلل صار أعمق من إقامة علاقة مع أشخاص وفعاليات، وانتقل إلى سيطرة على مؤسسات وأجهزة، لم يكن الإيرانيون أو غيرهم في العالم يتصورون وصولهم إلى مدخل عليها، والأمر في هذا ينطبق على الجيش وأجهزة الأمن، التي كانت محكومة من رأس النظام وحده، فيما تتصرف إيران في عدد منها كأنها مؤسسات إيرانية لدرجة التحكم بقيادات فيها، فتجلب البعض وتُبعد آخرين، وتتدخل بصورة مباشرة عبر من تسميهم "المستشارين" في مهمات ووظائف وحدات عسكرية وأجهزة أمنية.
والنقطة الثانية في الحضور الإيراني العميق، يمثلها التسلل إلى بنية الاقتصاد السوري والإمساك بمفاصل أساسية فيه، الذي كانت الحرب وتكاليفها مدخله، وليس من باب ما تسميها إيران "المساعدات" المختلفة التي قدمتها في 13 عاماً من الصراع في سوريا وحولها فقط، بل عبر الديون المقدَّرة بأكثر من 50 مليار دولار أميركي، قدَّمتها طهران للنظام، وقد استغل الإيرانيون "المساعدات" و"الديون" ليفرضوا على النظام رغباتهم وطموحاتهم في تحديد ما يريدونه من أصول في الاقتصاد السوري، وبينها صناعات استخراجية ومرافق، واستثمارات في قطاعات مختلفة تمتد من الزراعة إلى الصناعة والتجارة والسياحة وصولاً إلى الاستثمار في التعليم، وقد جرى العام الماضي عقد وتوقيع عشرات الاتفاقيات وبروتوكولات التعاون السوري - الإيراني، ودخل بعضها حيز التنفيذ العملي.
ولا تكمن أهمية حضور إيران في الموضوعين السابقين: الأمن والجيش أولاً، والتسلل إلى بنية الاقتصاد ثانياً، فيما يعطيها من قوة في الواقع الراهن، فهذا أمر متوفر حالياً من خلال حاجة النظام إليها، ومن خلال مالها من أدوات راهنة سواء إيرانية، بينها "الحرس الثوري" أو ميليشيات تتبع لها مثل "حزب الله" اللبناني وفصائل "الحشد العراقي" و"الزينبيون الأفغان"، بل إن الهدف تشكيل قوة عميقة تؤثر في مستقبل سوريا، وتجعلها، كما صرّح كثير من المسؤولين الإيرانيين في السنوات الماضية، "ولاية إيرانية"، عبر إحداث وإدارة مؤثرات جوهرية، تتعلق بحياة السوريين المادية والثقافية من جهة ومن خلال قوة تنفيذية تسيطر عليها إيران.
غير أن ما سبق كله لا يُكمل دائرة الاطمئنان بصدد مستقبل سوريا في العهدة الإيرانية، وهو أمر تؤكده جهود إيران، التي تتم بأدواتها المباشرة بغضّ النظر عما إذا كان النظام يساعد أو لا يساعد، يقبل أو لا يقبل، وبهذا المعنى فإن الجهود المبذولة في هذا الجانب، إنما هي من توجهات وأفعال الدولة العميقة الإيرانية، وبين هذه الأفعال سوف نتوقف عند نشاطين؛ الأول هو تعليم اللغة الفارسية من جانب معلمين ومدرسين إيرانيين، والآخر تشكيل ميليشيات سورية بواسطة ضباط من "الحرس الثوري" الإيراني، والأمران على جانب كبير من الأهمية.
إن تعليم اللغة لا يعني اكتساب مهارة فقط، بل يعني في الأهم منه، فتح الباب للوصول إلى معانٍ وأفكار وقيم وطرق تفكير وردّات فعل أصحابها، وبهذا فإن تعليم الفارسية يضع تلاميذها وطلابها أمام منظومات جديدة، يمكن أن تحل، وأقلها أن تتشارك مع المنظومات الأم والأساسية للمتعلمين، وغالباً فإن المضامين العنصرية والطائفية المستمَدة من التشييع الفارسي، سوف تزيد تأثير الفارسية في المتعلمين وبخاصة أصحاب الأعمار الأصغر، وبهذا المعنى فإن ثمة مراهنة على تعزيز أدوات السيطرة على مستقبل سوريا، وهو أمر يعززه تنظيم ميليشيات من شبان مختارين برعاية وتدريب ضباط "الحرس الثوري" الذين يخلطون مهارات التعليم بمهارات الداعية، ويدمجونها بقوة وعنجهية الضابط من أجل إنتاج عناصر وكادرات في ميليشيات من سوريين مهمشين وضعفاء متروكين لمصائرهم من دون تعليم ولا سند.
يحتاج السوريون والعرب عامةً اليوم وكل يوم إلى الوقوف أمام ما تقوم به إيران في سوريا، والتفكير في أهدافها وطموحاتها، ليس من باب معرفة الحاضر، فهذا متاح والأغلبية تعرفه، بل من باب معرفة ما ستؤول إليه ليس حال سوريا، بل بلدان عربية أخرى، تشعر وتقول إنها خارج الاهتمام الإيراني، وإن ما حصل في سوريا لن يتكرر في بلد آخر.